![]() |
|
الرئيسية » الصحابة » الرد على من زعم أن عمر اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه من كتابة الكتاب؟
الرد على من زعم أن عمر اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه من كتابة الكتاب؟
المجيب: موقع الإسلام سؤال وجوابالسؤال :
الرد على من زعم أن عمر اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه من كتابة الكتاب؟
الإجابة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
وبعد فقد روى البخاري ومسلم عن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده . فقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا.
وسياق الحديث يرد على تحامل أهل الأهواء على عمر رضي الله عنه؛ فإنه ليس في قول عمر هذا أي اعتراض على رسول الله وعدم امتثال أمره كما توهموا.
وبيان هذا من عدة وجوه:
الوجه الأول:أنه ظهر لعمر رضي الله عنه ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، وقد نبه على هذا القاضي عياض، والقرطبي، والنووي، وابن حجر.
ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر رضي الله عنه، وذلك بترك الرسول عليه الصلاة والسلام كتابة الكتاب، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، ولا يعقل أن يكون الرسول ترك أمراً واجباً وقصَّر في أدائه، كيف وهو المبلغ عن ربه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا {المائدة:3}
فلو كان الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لمخالفة من خالف، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلغ ما أُمر به، وما ثناه ذلك عن دعوته، حتى هلك من هلك عن بينة، وحيي من حيي عن بينة.
فظهر بهذا أن كتابة الكتاب لم تكن واجبة عليه، وإلا ما تركها، وقد نص على ذلك العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر -رحمهما الله-. وحينئذ يكون توجيه إرادته له أولاً، ثم تركه له بعد ذلك ما ذكره النووي حيث قال: كان النبي همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه ذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول.
الوجه الثاني:أن قول عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله، رد على من نازعه لا على أمر النبي عليه الصلاة والسلام.وهذا ظاهر من قوله: عندكم كتاب الله فإن المخاطب جمع وهم المخالفون لعمر رضي الله عنه في رأيه.
الوجه الثالث:أن عمر رضي الله عنه كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال: فقيل: شفقته على رسول الله عليه الصلاة والسلام مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد غلبه الوجع فكره أن يتكلف رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يشق ويثقل عليه، مع استحضاره قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ {الأنعام: 38}، وقوله: تبياناً لكل شيء.{النحل: 89}
وقيل: إنه خشي تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل، نص على ذلك القاضي عياض وغيره من أهل العلم.
وقيل: إنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد، لما فيه من الأجر والتوسعة على الأمة.
ولا يبعد أن يكون عمر رضي الله عنه لاحظ هذه الأمور كلها، أو كان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول عليه الصلاة والسلام بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.
قال النووي: وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره.
الوجه الرابع:أن عمر رضي الله عنه كان مجتهداً في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل حال، بل مأجور لقول النبي عليه الصلاة والسلام : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله أجر رواه البخاري ومسلم.
فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يؤثمه، ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك كتابة الكتاب، ومن ثم عد ذلك من موافقاته رضي الله عنه.
وبهذا يظهر بطلان طعن أهل الأواء في عمر رضي الله عنه وعن جميع الصحابة في هذه الحادثة، وبيان توجيه مواقفهم التوجيه الصحيح اللائق بمقاماتهم العظيمة في الدين من خلال النصوص وكلام أهل العلم.الوجه الخامس:وهو أن هذا الكتاب الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في مرض موته، قد همّ أن يكتب مثله قبل ذلك في آخر حياته أيضًا، ومضمونه على الضدّ مما يزعمه أهل البدع.فعن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: في مرضه: ادعي لي أبا بكر، أباك، وأخاك، حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. رواه مسلم. ورواه البخاري بلفظ: لقد هممت، أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد؛ أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون. ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون.وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، قالت عائشة واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون.
ويراجع في ذلك منهاج السنة النبوية ابن تيمية، والشفا للقاضي عياض ، وشرح صحيح مسلم للنووي، وفتح الباري لابن حجر.وتلخص أنه:ليس في الحديث المذكور حجة لأهل البدع، والأهواء على ما يدعونه على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ بل هو من فضائله، وفقهه، وفهمه الثاقب لدين الله، ولو لم يوافق رأيه الصواب- كما وقع له في عدة مواقف معروفة- لما تنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة مهما كان الأمر.
والرأي بعدم الكتابة لم يكن رأي عمر فحسب، بل معه رجال من الصحابة، ولم يكن عمر ولا من وافقه من الصحابة ليعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا لأنهم رأوا أن أمره صلى الله عليه وسلم في ذلك الحال لم يكن للوجوب، فحرصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرفق به.وهذه أقوال أهل العلم في المسألة:
قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره: اِئْتُونِي: أَمْر، وَكَانَ حَقّ الْمَأْمُور أَنْ يُبَادِر لِلِامْتِثَالِ، لَكِنْ ظَهَرَ لِعُمَر -رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- مَعَ طَائِفَة أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوب، وَأَنَّهُ مِنْ بَاب الْإِرْشَاد إِلَى الْأَصْلَح، فَكَرِهُوا أَنْ يُكَلِّفُوهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقّ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَة، مَعَ اِسْتِحْضَارهمْ قَوْله تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]. وَقَوْله تَعَالَى: (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وَلِهَذَا قَالَ عُمَر: حَسْبنَا كِتَاب اللَّه. وَظَهَرَ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُكْتَب؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اِمْتِثَال أَمْره، وَمَا يَتَضَمَّنهُ مِنْ زِيَادَة الْإِيضَاح، وَدَلَّ أَمْره لَهُمَا بِالْقِيَامِ، عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ الْأَوَّل كَانَ عَلَى الِاخْتِيَار، وَلِهَذَا عَاشَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ أَيَّامًا وَلَمْ يُعَاوِد أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَتْرُكهُ لِاخْتِلَافِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُك التَّبْلِيغ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَة يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْض الْأُمُور مَا لَمْ يَجْزِم بِالْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمَ اِمْتَثَلُوا. انتهى.
وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: قَالَ الْإِمَام الْحَافِظ، أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ، فِي أَوَاخِر كِتَابه دَلَائِل النُّبُوَّة: إِنَّمَا قَصَدَ عُمَر التَّخْفِيف عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين غَلَبَهُ الْوَجَع، وَلَوْ كَانَ مُرَاده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُب مَا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ، لَمْ يَتْرُكهُ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة:67].كَمَا لَمْ يَتْرُك تَبْلِيغ غَيْر ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ، وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ، وَكَمَا أَمَرَ فِي ذَلِكَ الْحَال بِإِخْرَاجِ الْيَهُود مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيث. انتهى.
وأما ما ورد في الحديث من قول بعضهم: أَهَجَر، فلم يرد أن القائل له عمر، بل إن سياق الكلام يدل على أن القائل غير عمر، ممن خالف عمر في الرأي.
قال ابن حجر في الفتح: وَالْهُجْر بِالضَّمِّ، ثُمَّ السُّكُون: الْهَذَيَان، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا مَا يَقَع مِنْ كَلَام الْمَرِيض الَّذِي لَا يَنْتَظِم، وَلَا يُعْتَدّ بِهِ؛ لِعَدَمِ فَائِدَته. وَوُقُوع ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحِيل؛ لِأَنَّهُ مَعْصُوم فِي صِحَّته وَمَرَضه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ) [النجم:3-4]، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَا أَقُول فِي الْغَضَب، وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا". وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُوقَف فِي اِمْتِثَال أَمْره، بِإِحْضَارِ الْكَتِف، وَالدَّوَاة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَتَوَقَّف، أَتَظُنُّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ يَقُول الْهَذَيَان فِي مَرَضه؟! اِمْتَثِلْ أَمْره، وَأَحْضِرْهُ مَا طَلَبَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُول إِلَّا الْحَقّ، قَالَ: هَذَا أَحْسَن الْأَجْوِبَة. انتهى.
وليس في القصة أن عمر توهم الغلط في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها كذلك تنقيصاً لعمر -رضي الله عنه- ولا لغيره من الصحابة ممن وافقوه على رأيه، بل فيها منقبة لهم وفضل؛ لأن الحامل لهم على ذلك هو الشفقة عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمة.
قال النووي في شرح مسلم: وَأَمَّا كَلَام عُمَر -رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء الْمُتَكَلِّمُونَ فِي شَرْح الْحَدِيث، عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلَائِل فِقْه عُمَر وَفَضَائِله، وَدَقِيق نَظَره؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا؛ وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَة عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصَة لَا مَجَال لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا، فَقَالَ عُمَر: حَسْبنَا كِتَاب اللَّه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء } وَقَوْله: { الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ } فَعُلِمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَكْمَلَ دِينه، فَأَمِنَ الضَّلَال عَلَى الْأُمَّة، وَأَرَادَ التَّرْفِيه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ عُمَر أَفْقَه مِنْ اِبْن عَبَّاس وَمُوَافِقِيهِ. انتهى.
وقال النووي أيضا: وَفِي تَرْكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْكَار عَلَى عُمَر، دَلِيل عَلَى اسْتِصْوَابه.
هدانا الله جميعا إلى صراطه المستقيم.
والله أعلم.